فصل: فصل في العدل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في توثيق عرى المودة بين المسلمين وتصفية القلوب:

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن توثيق عرى المودة بين المسلمين وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد، والحرص على مَا يجلب المودة والتآلف، والتناصر والتعاضد، وتجنب مَا يوغر الصدور ويورث العداوة واجب تقتضيه الأخوة الإيمانية، والإيمان لا يكون تامًا إلا بذلك.
والله سبحانه وتعالى نهى عن التفرق فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} فأمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرق، وَقَدْ وردت أحاديث متعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.
ولما كَانَ الصالح بين المسلمين أفرادًا أو جماعات يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل وحقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة.
وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل وتوفير الرسوم والنفقات الأخرى وتجنب إنكار الحقائق التي تجر إليها الخصومات وترك شهادة الزور وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس وتفرغ النفوس للمصالح بدل جدالها وانهماكها فِي الكيد للخصوم إِلَى غير ذلك مما يثمره الصلح أمر الله به وحث عليه.
قال الله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
وحث صلى الله عليه وسلم على الصلح وأصلح بين كثير من أصحابه وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كَانَ بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم فِي أناس معه. الحديث متفق عليه.
ولقد بلغت العناية بالصلح بين المسلمين إِلَى انه رخص فيه بالكذب رغم قباحته وشناعته وشدة تحريمه، وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يكذب من نمى بين اثنين ليصلح بينهم».
وفي رواية: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرًا أو نمى خيرًا». رواه أبو داود، وفي رواية لمسلم قالت: ولم أسمعه يرخص فِي شيء مما يقوله الناس إلا فِي ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، أي قال خيرًا على وجه الإصلاح وليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي أثمه فالكذب كذب وإن قيل للإصلاح أو غيره وإنما نفي عن المصلح كونه كذابًا باعتبار قصده.
وهذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إِلَى الزيادة فِي القول ومجاوزة الصدق طلبًا للسلامة ودفعًا للضرر ورخص فِي اليسير فِي مثل هذا لما يؤمل فيه من الصلاح، والكذب بين اثنين فِي الإصلاح أن ينمي من أحدهما إِلَى صاحبه خيرًا ويبلغه جميلاً وإن لَمْ يكن سمعه بقصد الإصلاح، والكذب فِي الحرب أن يظهر فِي نفسه قوة ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه ويوهنه ويشتت فكره. والكذب للزوجة أن يعدها ويمنيها ويظهر لها أكثر مما فِي نفسه ليستديم صحبتها ويصلح به خلقها.
وبلغت العناية بالصلح بين الناس إِلَى أن المصلح بين الناس يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء مَا تحمله من الديون فِي سبيل الإصلاح وإن كَانَ قادرًا على أدائها من ماله.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس تجارة وأنه مما يرضاه الله ورسوله، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى. قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا». رواه البزار والطبراني، وعنده «ألا أدلك على عمل يرضاه الله ورسوله؟» قال: بلى. قال: «صل بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا».
وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصلح بين الناس أصلح الله أمره وأعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة ورجع مغفورًا له مَا تقدم من ذنبه» رواه الأصبهاني وهو حديث غريب جدًا.
اللهم يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا مَا ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فصل في صون الإنسان نفسه عن مسألة الناس:

عباد الله لما كَانَ الإنسان مكلفًا بالسعي والعمل لطلب الرزق من وجوهه المشروعة كَانَ حقًّا عليه أن يصون نفسه عن مسألة الناس.
وأن لا يمد يده لسؤالهم ولا يتقدم إليهم لطلب حطام الدنيا إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة لأنه إذا قعد عن العمل ولزم البطالة والكسل ونظر لما فِي أيدي الناس من أوساخهم ساءت حاله، وضاعت آماله، وضعف توكله، وضاق عيشه، وانحطت نفسه، واعتاد السؤال الذي لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:
الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله عنه، وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو جعل يسأل وأنه مَا يجد شيئًا لكان سؤاله تشنيعًا على سيده ولا يرضى بذلك ولله المثل الأعَلَى.
ولاسيما إذا أتى إِلَى بيت الله يسأله من فضله، ثم قام من حين مَا يسلم الإمام وجعل يشرح حاله وفقره وأوقف الناس عن تهليلهم، وتسبيحهم، وتكبيرهم، والمساجد لَمْ تبن إلا لذكر الله، والصلاة فيها وقراءة القرآن. وهذا المنكر قل من ينتبه له.
الأمر الثاني: أن فِي سؤال الناس إذلال لنفس السائل، وليس للإنسان أن يذل نفسه ويخضعها إلا لله، الذي فِي إذلالها عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا يذل لهم نفسه.
ثالثًا: أن فيه ظلم لنفسه إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة وفيه أيضًا إيذاء للمسئول خصوصًا إذ كَانَ مع إلحاح، والإيذاء حرام، فأي عاقل يرضى لنفسه بهذه الحالة التعسة، بل كيف يرضى أن يكون عضوًا أشلاً فِي الهيئة الاجتماعية لا يقام له وزن ولا تقام له قيمة.
وَقَدْ أثنى الله على الذين لا يسألون الناس إلحافًا وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس».
ففي زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار عندهم الحلال مَا وصل إِلَى اليد وذهب عنهم الورع والابتعاد عن الشبهات، على الإنسان أن يبذل جهده ويثبت ولا يبذل زكاته إِلَى كل من مد يده، بل يسأله بدقة، ويتحقق من الأوراق التي تعرض عليه، التي صارت تصور وتباع وتشتري وربما حصل المتسول على أضعاف مَا فيها ولو أن هؤلاء المتسولين الشحاذين استعملوا فِي طريق منتج من تجارة أو غيرها مَا يصل إلى أيديهم من الصدقات لما بقي فِي الأمة مِنْهُمْ متسول، ولكن هؤلاء قوم ألفوا هذا العيش وركنوا إليه لا يدفعهم إليه فقر ولا يردهم عنه غنى، وكم ممن اكتشف فصار عنده ثروة، وهذا سببه عدم التبيت وإجراء العادات بدون سؤال هل اغتنى أم لا.
وَقَدْ بين صلى الله عليه وسلم من يحل له السؤال وذلك فيما ورد عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها». ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش- أو قال: سداد من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش- أو قال: سداد من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتَا». رواه مسلم.
وَقَدْ ذكرنا الأحاديث التي تتضمن التغليظ الشديد فِي السؤال من غير ضرورة وذلك فِي موضوع: من تحل له الصدقة.
غَفَلْتُ وَحَادِي الْمَوْتِ فِي أَثَرِي يَحْدُوْ ** فَإِنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِي فلابد أَنْ أَغْدُ

أُنَعِّمُ جِسْمِي بِاللَِبَاسِ وَلِيْنِهِ ** وَلَيْسَ لِجِسْمِي مِنْ لِبَاسِ الْبِلَى بُدُّ

كَأَنِّي بِهِ قَدْ مَرَّ فِي بَرْزَخِ الْبِلَى ** وَمِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ

وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْمَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ ** وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ

أَرَى الْعُمْرَ قَدْ وَلَى وَلَمْ أُدْرِكْ الْمُنَى ** وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وَفِي سَفَرِي بَعْدُ

وَقَدْ كُنْتُ َجَاهَرْتُ الْمُهَيْمِنَ عَاصِيًا ** وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ

وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِنْ الْحَيَا ** وَمَا خِفْتُ مِنْ سِرِّي غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو

بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ ** وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الْحَمْدُ

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٍ سِوَى الْمَوْتِ وَالْبِلَى ** عَنْ اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنِا الرُّشْدُ

عَسَى غَافِرُ الزَّلاَّتِ يَغْفِرُ زَلَّتِِي ** فَقَدْ يَغْفِرُ الْمَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ

أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلايَ عَهْدَهُ ** كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسِ لَهُ عَهْدُ

فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقَتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي ** وَنَارُكَ لاَ يَقْوَى لَهَا الْحَجَرُ الصَّلْدُ

أَنَا الْفَرْدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْفَرْدُ فِي الْبِلَى ** وَأَبْعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الْفَرْدَ يَا فَرْدُ

اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك فِي أعمالنا وأجزل لنا الأجر والمثابة وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

.فصل في بيان فضل درجة المصلح بين الناس:

وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن درجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة». رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: حديث صحيح قال: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين».
ولا غرو إذا ارتفعت درجة المصلح الباذل جهده المضحي براحته وأمواله فِي رأب الصدع وجمع الشتات وإصلاح فساد القلوب، وإزالة مَا فِي النفوس من ضغينة وحقد والعمل على إحكام الروابط للألفة والإخاء وإطفاء نار العداوة والفتن.
كما هي وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم من الطوائف ويجدون فِي إحباط كيد الخائنين.
ولو أننا تبعتنا الحوادث وراجعنا الوقائع لوجدنا أن مَا بالمحاكم من قضايا وما بالمراكز والنيابات من خصومات وما بالمستشفيات من مرضى، وما بالسجون من بؤساء يرجع أكثره إِلَى إهمال الصلح بين الناس حتى عم الشر القريب والبعيد وأهلك النفوس والأموال وقضى على الأواصر وقطع مَا أمر الله به أن يوصل من وشائج الرحم والقرابة وذهب بريح الجماعات وبعث على الفساد فِي الأرض.
ومن تأمل مَا عليه الناس اليوم وجد أن كثيرًا مِنْهُمْ قَدْ فسدت قلوبهم وخبثت نياتهم لأنهم يحبون الشر يتركون ويميلون إليه ويعملون على نشره بين الناس، ومن أجل ذلك يتركون المتخاصمين فِي غضبهم وشتائمهم وكيد بعضهم لبعض حتى يستفحل الأمر.
ويشتد الشر ويستحكم الخصام بينهم فينقلبوا من الكلام إِلَى القذف والطعن ومن ذلك إِلَى اللطم ومن اللطم إِلَى العصي ومن العصي على السلاح ثم بعد ذلك إِلَى المراكز ثم إِلَى السجون والناس فِي أثناء ذلك كله يتفرجون ويتغامزون ويتتبعون الحوادث ويلتقطون الأخبار، بل قَدْ يلهبون نار الفتنة والعداوة ولا يزالون كذلك حتى يقهر القوي ولو كَانَ ذلك بالباطل والزور والبهتان بدون خوف من الله ولا حياء من الناس.
وتكون النتيجة بعد ذلك ضياع مَا يملكون من مال أو عقار وَقَدْ كَانَ يكفي لإزالة مَا فِي النفوس من الأضغان والأحقاد والكراهة، كلمة واحدة من عاقل لبيب ناصح مخلص تقضي على الخصومات فِي مهدها فيتغلب جانب الخير ويرتفع الشر وتسلم الجماعة من التصدع والانشقاق والتفرق.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، إذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه فِي شيء وهو يقول: والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟» فقال: أنا يا رسول الله فله أي ذلك أحب. متفق عليه. فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر عمله عدل عن رأيه واستجاب لفعل الخير وَقَدْ قامت فِي نفسه دوافعه إرضاء لله ولرسوله.
والشاهد من ذلك خروجه صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهم فالدين الإسلامي الحنيف أوجب على العقلاء من الناس أن يتوسطوا بين المتخاصمين ويقوموا بإصلاح ذات بينهم ويلزموا المعتدي أن يقف عند حده درأ للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع ومنعًا للفوضى والخصام، وأقوم الوسائل التي تصفو بها القلوب من أحقادها أن يجعل كل امرئٍ نفسه ميزانًا بينه وبين إخوانه المسلمين فما يحبه لنفسه يحبه لهم وما يكرهه لنفسه يكرهه لهم.
كَمْ مِنْ أَخِ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَا ** وَأَخٌ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَا

كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُمَا ** وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَا

وبذلك تستقم الأمور بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه». وهذه الطريقة هي التي كَانَ عليها السلف الصالح من المسلمين وكانوا بسبب ذلك مفلحين.
إِنَّ الْمَكَارِمَ كُلَّهَا لَوْ حُصِّلَتْ ** رَجَّعْتُ جُمْلَتِهَا إِلَى شَيْئَيْنِ

تَعَظِيْمُ أَمْرِ اللهِ جَلَّ جَلالَهُ ** وَالسَّعِي فِي إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْن

آخر:
فَأَحْسِنْ إِذَا أُوْتِيْتَ جَاهًا فَإِنَّهُ ** سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيْلٍ تَقْشَّعُ

وَكُنْ شَافِعًا مَا كُنْتَ فِي الدَّهْرِ قَادِرًا ** وَخَيْرُ زَمَانِ الْمَرْءِ مَا فِيْهِ يَشْفَعُ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

.فصل في العدل:

العدل: ضد الجور وهو الاعتدال والاستقامة والميل إِلَى الحق. وشرعًا: هو الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا وفي اصطلاح الفقهاء العدالة استواء أحواله فِي دينه واعتدال أقواله وأفعاله.
ويعتبر لها شيئان الصلاح فِي الدين واجتناب المحرم، والعدالة تارة يقال لها هي الفضائل كلها من حيث لا يخرج شيء من الفضائل عنها، وتارة يقال لها هي أجمل الفضائل من حيث أن صاحبها يقدر أن يستعملها فِي نفسه وفي غيره.
وقيل فِي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} أي العدل والإنصاف، كما فِي قوله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} وقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} قال قتادة ومجاهد ومقاتل: العدل. وسمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، وعبر عن العدالة بالميزان إذ كَانَ من أثرها، ومن أظهر أفعالها للحاسة.
ومن مزية العدل أن الجور الذي هو ضد العدل لا يتسبب إلا به فلو أن لصوصًا أو نحوهم تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه لَمْ ينتظم أمرهم. ومن فضلها أن كل نفس تتلذذ بسماعها وتتألم من ضدها ولذلك حتى الجائر يستحسن عدل غيره إذ رآه أو سمعه.
والعدل يدعو إِلَى الألفة والمحبة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمي به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان لحصول الأمن العادل وانبساط الآمال.
عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ إِنْ وُلِّيتَ مَمْلَكَةً ** وَاحْذَرْ مِنْ الْجورِ فِيْهَا غَايَةَ الْحَذَرِ

فَالْمَالُكْ يَبْقَى على عَدْلٍ الْكَفُورِ وَلاَ ** يَبْقَى مَعْ الْجَوْرِ فِي بَدْوِ وَلاَ حَضَر

وَقَدْ قال المرزبان رئيس المجوس لعمر رضي الله عنه لما رآه مبتذلاً لا حارس له: عدلت فأمنت فنمت.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا ** بَيْنَ الرَّعِيَّةِ عُطْلاً وَهُوَ رَاعِيْهَا

وَعَهْدُهُ بِمُلُوْكِ الْفُرْسِ أَنَّ لَهَا ** سُوْرًا مِنْ الْجُنْدِ وَالأَحْرَاسِ يَحْمِيهَا

رَآهُ مُسْتَرِقًا فِي نَوْمِهِ فَرَأَى ** فِيْهِ الْجَلالَةَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهَا

فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلاً ** بِبُرْدَةٍ كَادَ طُولُ الْعَهْدِ يُبْلِيهَا

فَهَانَ فِي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْبِرُهُ ** مِنْ الأَكَاسِرِ وَالدَّنْيَا بِأَيْدِيهَا

وَقَالَ قَوْلَةَ حَقٍّ أَصْبَحَتْ مَثَلاً ** وَأَصْبَحَ الْجِيلُ بَعْدَ الْجِيلِ يَحْكِيهَا

أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمُوا ** فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيرِ الْعَيْنِ هَانِيهَا

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فالعدل فِي حالة الغضب والرضا وخشية الله تعالى فِي السر والعلانية والقصد فِي الغنى والفقر. وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه». والذي يجب أن يستعمل الإنسان العدل معه أولاً بينه وبين رب العزة جل ولعلا بمعرفة أحكامه وتطبيقها بالعمل بها.
فأعظم الحقوق على الإطلاق حق الله تعالى على عباده وذلك بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وفي حديث معاذ المتفق عليه «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا». فمن قام بهذا الحق فعبد الله وحده. وأدى هذا الحق وقام بحقوقه مخلصًا لله، فقد قام بأعظم العدل، ومن صرفه لغير الله فقد جار وظلم، وعدل عن العدل واستحق العقوبة.
الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيْرَتِهِ ** لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا

الثاني: أن يعدل مع نفسه وذلك بحملها على مَا فيه صلاحها وكفها عن القبائح ثم بالوقوف فِي أحوالها جور على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فِي الأحوال جور على النفس والتقصير فيها ظلم لها لمنعها عن كمالها ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ومن جار على نفسه فهو على غيره أجور، لأن من لَمْ يراع حقوق نفسه فعدم مراعاته حقوق غيره أولى وأحرى.
الثالث: عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان فِي رعيته والرئيس مع صحابته، وذلك بأمور: الأول إتباع الميسور لهم وترك المعسور وحذفه عنهم وترك التسليط والقهر بالقوة وابتغاء الحق فِي الميسور ويقيم العدل فيهم قريبهم وبعيدهم غنيهم وفقيرهم وأن يكونوا عنده فِي هذا سواء.
ولا يقصر شيئًا من واجبه مع رعيته ولا يهمل شيئًا يرقي أدانهم وعقولهم وأخلاقهم ويحفظ عليهم أموالهم ودمائهم وأعراضهم ويكون لهم مثلاً أعلى فِي معاملة بعضهم بعضًا بالعدل والإنصاف، فالحاكم كالقلب من الجسد إذا صَلح صلح الجسد، فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت، فلهذا مسؤولية ولاة الأمور عظيمة فِي نظر الشريعة الإسلامية.
وَقَدْ حذر مِنْهَا النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها». رواه مسلم، وحقها فِي نظر الدين أن يقوم بكل شيء فيه مصلحة للمحكومين.
قال عمر رضي الله عنه: والله لو عثرت بغلة فِي العراق لوجدتني مسئولاً عنها، فقيل: لماذا يا أمير المؤمنين، فقال: لأنني مكلف بإصلاح الطريق. هذا مثال الحاكم العدل، ولهذا جعل الله له فضلاً عظيمًا وميزة كما سيأتي فِي الأحاديث.
وروي أن يهوديًا شكا عليًا إِلَى عمر فِي خلافته رضي الله عنهما، فقال عمر لعلي بن أبي طالب: قف بجوار خصمك يا أبا الحسن، فوقف وَقَدْ علا وجهه الغضب فبعد أن قضى الخليفة بينهما بالعدل قال: أغضبت يا علي أن قلت لك قف بجوار خصمك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لكن من كونك كنيتني بأبي الحسن فخشيت من تعظيمك إياي أمام اليهودي أن يقول ضاع العدل بين المسلمين.
وجاء رجل إِلَى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ رزقه وكان جنديًا من جنود المسلمين ولكنه كَانَ فِي الجاهلية قَدْ قتل أخًا لعمر بن الخطاب فلما رآه عمر اربد وجهه، وقال له: يا هذا إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، فقال الرجل لعمر: أو مانعي ذلك عندك حقًّا من حقوق الله فقال عمر: اللهم لا.
فقال الرجل مَا يضيرني بغضك إياي إنما يأسى على الحب النساء. فقد عرف الرجل من ورع عمر ودينه أن شدة غضبه وغيضه وحنقه عليه وكراهية له لا تخرج به عن العدل إِلَى الظلم فهو لما علم من عدله وثقته بدينه أمن من بطشه.
ومما يجب عليه أن يستنيب لكل عمل الأكفأ الأمين وليحذر أن يولي عليهم رجلاً وفي رعيته خير مِنْه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين». رواه الحاكم.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد أن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم». رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعَلَى الإمام أن يوصي من استنابه بإقامة العدل ويحذرهم من الجور وظلم العباد فِي الدماء والأموال والأعراض، ويذكرهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده».
ويتفقدهم فِي ذلك الأمر الذي هو أساس الصلاح الديني والدنيوي فلا يصلح الدين إلا بالعدل ولا تصلح الدنيا وتستقيم الأمور إلا على العدل.
وقال الشيخ تقي الدين أمور الناس تستقم فِي الدنيا مع العدل الذي فيه اشتراك فِي أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم فِي الحقوق وإن لَمْ تشترك فِي إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كَانَت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كَانَت مسلمة ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لَمْ يكن لصاحبها فِي الآخرة من خلاق. اهـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل نمن عبادة ستين سنة وحد يقام فِي الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحًا». رواه الطبراني فِي الكبير والأوسط وإسناد الكبير حسن.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها، ويا أبا هريرة جور ساعة فِي حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة». وفي رواية: «عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة». رواه الأصبهاني.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إِلَى الله يوم القيامة وأدناهم مِنْه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إِلَى الله تعالى وأبعدهم مجلسًا إمام جائر». رواه الترمذي والطبراني فِي الأوسط مختصرًا، وعد صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله «إمام عادل».
اللهم ارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً ورزقًا واسعًا نستعين به على طاعتك، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وإيمانًا خالصًا، وهب لنا لإنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، وأعمال الصالحين، ويقين الصادقين، وسعادة المتقين، ودرجات الفائزين، يا أفضل من رجي وقصد، وأكرم من سئل، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.